ولكن لم تكتب لي " صابونة " يا دكتور!

الدكتور محمد غياث التركماني

 

لدى بعض العامة من الناس اعتقادات خاصة جداً . تفرضها عليهم العادات والتقاليد ومستوى الوعي والثقافة الصحية لمجتمعاتهم . فالبعض مثلاً يعتقد أن الطبيب لا يكون طبيباً إذا لم يحسن إعطاء الإبر والمحاقن . وفريق آخر ينظر إلى " الصابونة " بأنها ركن رئيس في علاج الأمراض الجلدية ، وربما يكون كل العلاج هناك في " الصابونة ".

عندما تخرجت من كلية الطب . كنت طبيبا حديث العهد ، قليل الخبرة ، قمت وكأي طبيب عام بمزاولة مهنة الطب في أحد الأرياف . وهناك صادفتني مشاكل كثيرة . كان الناس يعتقدون أن الطبيب الذي لا يعطي مرضاه إبراً ليس بطبيب . فكان لزاماً على كل مريض تطأ قدميه عيادتي أن يخرج منها وفي جنبه إبرة إن تيسر ، أو إبرتان أو أكثر وهذا طبعاً أفضل بكثير .

ومع هذا لم أمتثل يوماً لهوى الناس ومزاجهم في تحديد نوع العلاج المقترح لمرضهم ولا لطريقة تعاطيه . وكنت أعرف أكثر من غيري الطريقة الأمثل لإعطاء الأدوية من ناحية الامتصاص والمفعول والمحافظة على تركيز ثابت للدواء في الدم . فيما لو أعطي الدواء عن طريق الفم عدة مرات في اليوم مقارنة بتلك الإبرة السحرية . ما دامت الإبرة لن تتكرر على الأقل في نفس ذلك اليوم . ولن تحقق الغرض المطلوب بالمحافظة على مستوى ثابت من تركيز الدواء في الدم خلال فترة العلاج المقررة .

لكن لا أخفي عليكم أن الأمر بدأ يقلقني وشعرت أن الناس بدؤوا يتكلمون عن هذا الطبيب الجديد والحديث العهد بفنون مزاولة المهنة . ومع هذا كله لم يكن الأمر يزعجني ما دمت أثق بما أملك من معلومات طبية .

ولكن مصدر الإزعاج الحقيقي عندي هو رؤية جاري الصيدلاني " عبد الشافي " وقد اكتظت صيدليته بعشرات المرضى الذين اصطفوا على بابه. وهم يدخلون متألمون ثم يخرجون بعد أن يكونوا قد أخذوا نصيبهم من الإبر أصحاء سالمين معافين .

ليس المهم نوع الإبرة ، ونوع الدواء أو الجرعة المعطاة ، المهم أنهم نالوا المراد وحصلوا على ألم الإبرة المطلوب .

كان " عبد الشافي " يحقن الإبرة في الجنبين بالتناوب مرة يميناً وأخرى شمالاً . من فوق الثوب أو من تحته ليس مهماً . ناهيك عن عدم تطبيق أدنى معيار للتعقيم والتطهير . فالداخل متألماً يخرج مسروراً والداخل محموماً يخرج مبتهجاً وهكذا ...وكل ذلك في بضع دقائق .

وأخذ ينصحني حكماء القرية بأن تلين أصابعي ويرأف قلبي في مسايرة الناس في حقن الإبر حتى أصبح طبيباً مشهوراً . وكان عندي ذلك بمثابة نحت في الصخر أو مقارعة للخطوب .

واليوم الصورة متكررة بشكل أو بآخر . فكثير من الناس يعتقد أن طب الجلد يبدأ وينتهي عند تلك " الصابونة " . مع أنني أقل أطباء الجلد وصفاً للصابون ما دمت أعلم أن الصابون الطبي ليس ذو فائدة كبيرة في علاج العديد من أمراض الجلد .

ولا زلت أذكر العم " أبو إبراهيم " الذي حضر يوماً إلى عيادتي ولديه سرطان على الشفة ، مع جفاف جلد بسيط على ساقيه . جلست أشرح له مفصلاً عن ضرورة أخذ عينة من الورم لتأكيد التشخيص ومن ثم إجراء التدبير المناسب وفي أسرع وقت ممكن حتى لا يستفحل الأمر وينتشر السرطان ويكون وبالاً عليه .

لكن كل هذا لم يكن في صلب تفكير العم " أبو إبراهيم " وظل يكرر ويسألني عن نوع " الصابونة " المخصصة لجلده . ثم أخذ مني وصفته ، وراح يمعن النظر فيها ويقرؤها مرات ومرات ، ويدقق في حروفها وطلاسمها ، وبدا لي وكأنه كان يفتش عن شيء ما لم يجده بين سطور تلك الوصفة ... ثم غادر عيادتي مهموماً مودعاً قائلاً . " ولكن لم تكتب لي صابونة يا دكتور ! " ..

الدكتور محمد غياث التركماني

استشاري أمراض وجراحة الجلد والعلاج بالليزر